2012/08/09


الفاكهة في موسمها الفاشل
تتقمص دور جدة
وتشتاق لاسناننا
كم كنا كلابا
دون هوس حراستها

2012/08/05

ياسين طه حافظ في جلسة عن منجزه الابداعي باتحاد الادباء: انحني لك ايها الحزب الشيوعي، فقد منحتنا شرفا وفهما للحياة

بسام عبد الرزاق
(جلستنا هذا اليوم مميزة بكل ما فيها، فمن النادر ان يجتمع عملاقان تحت سقف واحد ومن الجميل جدا باننا في سنة 2012 ومازلنا نمتلك رموزنا الابداعية الكبيرة، هذه هي الثقافة العراقية التي ترفل بكل جديد ومميز).
 بهذه الكلمات افتتح الشاعر عمر السراي صباح الاربعاء 18 تموز 2012 الجلسة النقدية لاتحاد أدباء العراق التي تحدث فيها الناقد فاضل ثامر عن المنجز الابداعي للشاعر ياسين طه حافظ لاصداره مؤخرا ثلاثة دواوين جديدة، هي: "قصائد حب على جدار آشوري"، "ولكنها.. هي ذي حياتي"، و"ديوان فاطمة".

بين الخمسينات والستينات
استهل الناقد فاضل ثامر حديثه واصفا الشاعر ياسين طه حافظ بأنه قامة شعرية مهمة بدأت منذ الستينات ولازالت حتى اليوم تمد اغصانها وجذورها في فضاء الشعرية العراقية وتمنحها الكثير من الرواء والماء، وأضاف: عرفته منذ الستينات شاعرا حريصا، وهناك من لايعد حافظ من شعراء التجربة الستينية بوصفها تمثل رؤيا فنية وشعرية متكاملة، شأنه شأن شعراء كبار ربما لايقلون اهمية عن شعراء البيان الشعري منهم (حسب الشيخ جعفر، صادق الصائغ، يوسف الصائغ) الذين لم يعدوا في ذلك الوقت من جيل الستينات والرأي الشائع انهم بدأوا في الخمسينات لكن حافظ بدأ في الستينات، وربما بدأ بكتابات مبكرة في الخمسينات وان كان يرى البعض بان الرؤية الفنية والرؤية التعبيرية لقصيدة الشعر الحر التي مثلتها بشكل خاص تجربة السياب والبياتي كانت هي التجربة المؤثرة على هذه المجموعة الشعرية التي جايلت البيان الشعري، المشكلة ان البيان الشعري جاء يحمل تواقيع اربعة شعراء معروفين هم (فاضل العزاوي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى، سامي مهدي)، هذه الرؤيا حاولت ان تفارق المنظور الخمسيني للحداثة الشعرية.

وأد ثورة 14 تموز
واستدرك الاستاذ ثامر: لكن التجربة الستينية جاءت برؤيا جديدة وهي تتمثل بحالة انفصام عن عملية التغيير الاجتماعي والرغبة بالوقوف بموقف فردي ناشز من المجتمع في مواجهة التحولات من خلال رفض الكثير من القيم الفنية وحتى السياسية ولاننسى ان هذه التجربة جاءت في اعقاب وأد ثورة 14 تموز وقيام المد الفاشي المتمثل بانقلاب 36 الاسود.
وهنا أوضح: ولهذا فالمثقف العراقي كان مسروقا ونما في هذه الفترة بعيدا عن مباركة المؤسسات السياسية، فيما الجيل الخمسيني قد نما برعاية الجهات الرسمية ممثلة باليسار العراقي الى حد كبير.
وعن حال الشعراء انذاك، أشار: في الستينات كان معظم الشعراء مشريدين أو في السجون ولهذا انفلتوا على أهوائهم وبدأوا يجربون الكثير من الاشياء التكنيكية والتجريبية، وعلى المستوى الفكري لم نكن نجد خطا سياسيا او فكريا واضحا، بل كانت هناك تمردات وهلوسات وعودة للبيانات السيريالية، وهذه طبعا توجهت صوب خلق نمط جديد من الحداثة وهي ما تسمى (الحداثوية) التي تتماهى الى حد كبير مع الاتجاه الذي بدأ في الشعر الاوربي والفرنسي بشكل خاص على ايدي شعراء كبار امثال (رامبو، فودلير)، هذه التجربة انعكست بشكل كبير على هذا الجيل، لهذا تعودنا ان نقرأ قصائد صادمة وعنيفة جدا تجاه الواقع والمؤسسة الثقافية والاعراف القائمة.
تجارب ودونما مزايدات
ونوه: اما تجارب الشعراء الذين يمثلهم الشاعر ياسين طه حافظ فقد تواصلت بهدوء وبايقاع اهدأ دونما ادعاءات ودونما مزايدات، لكن هذه التجارب لم تبق بعيدا عن حافة التجريب والتشذيب وحافة البنيات اللغوية الجديدة التي جاءت بها التجربة الستينية، لهذا استمرت هذه التجارب بالتطور والنمو ولازالت تغني التجربة الشعرية حتى الان.
وعن الشاعر المتناول قال ثامر: ياسين طه حافظ وجدته منشغلا بلون البنية المنطقية والعقلانية القوية، ربما كانت مؤثرات القصيدة العمودية وربما المنحى الفكري والفلسفي الذي كان قويا لدرجة انك تجد الكثير من البنيات المنطقية الصارمة، لكنه في النهاية مال الى الاليات التي تعتمدها القصيدة الحديثة كـ (لقطة طبيعة، حركة زهرة وهي تتفتح، تكسر زجاج) هذه اللمسات التي تعلمناها من الشعر الحديث وحتى لدى شعراء عرب حداثيين امثال (انسي الحاج، ادونيس) ومن المجموعة الجديدة (محمد الماغوط).
وفي ختام قوله أكد الناقد فاضل ثامر: ياسين طه حافظ شاعر كبير بتجاربه ولغته وقصيدته المتميزة، وهو شاعر قريب من الثقافة العالمية، وقريب من الحياة اليومية في الشارع العراقي، وهو بدأ كبيرا فأول قصيدة له نشرتها مجلة "المثقف" التي كان يحررها د.علي الشوك وغانم حمدون وأمجد حسين، وثاني قصيدة نشرها له أدونيس في مجلة "مواقف"، ونراه اليوم قامة شعرية وثقافية.

أنا وفاضل أبناء معهد نضالي مجيد
ثم دعا مدير الجلسة الشاعر ياسين طه حافظ ليقدم شهادته، ففاجأ الحضور بارتجال لذيذ وحماس عذب، ليقول وكأنه يصدر بيانا:
اصدقائي، انا سعيد بكم، لا مجاملة، لكني اريدكم شهودا للمستقبل، اريدكم امناء على حقيقتنا، على حياتنا الصعبة، على صعوبة الكلام والخبز والحركة، انا اودعكم الان بعض اسراري، ساحزنكم قليلا لكن سأسركم بشرف حملناه ونحتفظ به.
ارتحت لكلام صديقي فاضل ثامر لانه ليس فقط ناقد كبير وعلمي في كلامه وجملته، ولكن فاضل معي، من المعهد النضالي المجيد الذي تخرجنا منه، فاضل وأنا عملنا معا في الثقافة والادب والحركة الادبية والثقافية والسياسية العراقية، وتغرب معي مثلما تغربت في ليبيا، ويظل صديق العمر وصديق الادب.
الثقافة لا تغير الطبقة انما تؤكدها
انا ابن حياة، ابن حياة عراقية، يتكدس في رأسي ذكريات العذابات كلها انا والناس، الاحزاب، نضالها، خيباتها، خوفها، رعبها، هذا كله في ذهني، وفضلا عن هذه الثقافة السياسية انا ابن ثقافة مجتمع، فانا ابن صرائف وابن ازقة وابن غرف مؤجرة للعوائل، اعرف هؤلاء، فهم اهلي ولا خير بي اذا خنتهم يوما، انا منهم ولا انسلخ عن طبقتي، الثقافة لا تغير الطبقة انما تؤكدها، انا اعرف في بغداد وفي البصرة وفي ديالى شخوصا، اناس مهمومين، فلاحين، عشاقا، لصوصا، طلاب ثأر، عاشقات، بغايا، رجال دين، كل هؤلاء في رأسي وهذا سمادي الذي انطلق منه الى الكتابة، جانب آخر من ياسين لا تعرفونه، ياسين كثيرا يزور المراقد، يزور الاولياء، ليس متدينا لكني اخلو هناك في زاوية بصمت واتأمل نفسي والعالم، احزن، ابتسم احيانا، يراني بعض الاصدقاء منزويا في الحضرة الكاظمية او في عبد القادر الكيلاني او في مرقد الشريف وعبدان في بعقوبة، وهؤلاء دخلوا في قصائدي.
أقرأ وأتأمل
هذا جانب من ثقافتنا الروحية الى جانب ثقافتنا المادية والى جانب تجاربنا اليومية، وكل هذا في الرأس عندما يكتب، الافق العالمي مطلوب، الثقافة مطلوبة في ان ترى العالم، انا أقرأ تاريخ العالم والفلسفة وتاريخ بلادي كله، كل مذكرات السياسيين العراقيين انا اقرأها واتأملها، كل تاريخ الاحزاب ومتاعبهم وتصريحاتهم عندي، فانا عندما اكتب، اكتب بهذا الوعي ايضا، فرموزي ودلائلي هناك، دائما هناك اشارة الى شيء آخر، بعضهم يفهمها والبعض لا.
 ابناء جيلي من امثال الاستاذ فاضل يعرف ما اعني، وعندما اكتب عن كامل شياع انا لا اكتب عنه انما عن ثقافة اغتيلت، هذا الذي في رأس ياسين وهو يكتب، يسألني بعض الاصدقاء انت تكتب احيانا مسائل قد تكون متأثرا فيها بالثقافة الاجنبية، ليس عيبا ان نتأثر بالثقافة الاجنبية، فكل حياتنا الان اجنبية، من الثياب الى العمارة الى اطباق الطعام، ولكن حين تكون هناك مصادر قومية او محلية فليس صحيحا ان تحيلنا الى الخارج.
الشرف الثقافي
 عندما اصدرت قصائد الاعراف كان فيها تجريب كثير، في اللون، في الموسيقى، في الرسم ال푈ڶطباعي، وفي الاخراج السينمائي، انتقم البعض منها، واحدهم اسود وهو كظيم، الوحيد الذي احتفى بها هو سعدي يوسف لانه يمتلك شرفا ثقافيا، اخذ المجموعة على قلبه وظل يدور بين المقاهي ويحدث الجميع عنها، وتلك الليلة حملني بسيارته الى بيتي، هذا هو الشرف الثقافي، لا ان تحزن عندما غيرك يحقق شيئا.
 كان المسمومون يتضورون عندما تصدر لي قصيدة جيدة وعندما يمتدحها الاخرون، سأحدثكم بما يفيدكم للتاريخ ولمعرفة بعض واقع الثقافة العراقية، مرة ونحن في مفهى البرلمان كان معنا فلان وفلان وفلان، الذكر الطيب لهم على اية حال، جاء احدهم وامتدح (في الخرائب حلية ذهب)، ثم جاء ثان وامتدحها، وصار موقفي محرجا امام هؤلاء الذين اولا يكرهونني او قل هم يحبون انفسهم كثيرا، ثم كانت الصدمة الثالثة فقد جاء ثالث حاملا الكتاب ويمتدح الديوان، اتعرفون ما حدث؟ تبرع احد الاخوان، للاسف الشديد هو رجل معروف واديب، وقال: ليسمع هؤلاء المتألمين من هذا المديح، انا سأكتب عنه.
لن يفيدنا الندم اذا خنا الثقافة والوطن
 انا عرفت ماذا سيكتب، كتب محاضرة القاها في اتحاد الادباء ولم يحضرها جمهور ونشرها في جريدة (الجمهورية)، أتعرفون ماذا قال هذا الرجل، فقط اراد ان يرضي هؤلاء، لاحظوا النفوس عندما تضعف، عندما تنتكس تماما، قال: ان ياسين طه حافظ متأثر بالسياب والدليل ان هذه القصيدة من بحر الرمل وتلك القصيدة من بحر الرمل، هل يليق هذا باكاديمي؟
وعندما كتب احد الاخوان اطروحة عني وراح يسأل ويستفسر، قالوا له هل تركت كل الكتاب وذهبت الى هذا، الان يخجل من كلامه لكن بعد فوات الاوان، اقول هذا ايها الاصدقاء كي تكون كل لحظة من لحظاتنا للشرف، لن يفيدنا الندم اذا خنا الثقافة والوطن.
قصيدة الحضارة
مرة وانا اقرأ في كتاب المُنة الفاضلة في القرن الثامن عشر للامريكي كارل بيكر انتبهت الى جملة، قال: (ان بعض الحضارات ممكن ان تستدل من بعض المفردات عليها) اذا لماذا لا ادخل المفردات اليومية واشير الى الحضارة؟ فكتبت قصيدة ادخلت فيها السخان والتلفزيون والاكزوز والاسبرين والسرطان، كتبت القصيدة وارسلتها الى جريدة الآداب، وانا لم اراسلهم سابقا، فنشرها سهيل ادريس على الصفحات الاول في المجلة.
لاتكتبوا الشعر بلغة الصحافة
اعطيكم مثالا شعبيا من متابعتي الدقيقة لشؤون الحياة، في اغنية لزكية جورج تقول (تاذيني يا ولفي ليش تاذيني) اين المعنى في هذا؟ لكن هنا حروف العلة تشتغل شغلا بديعا بجمال شعري، فلا يجوز ان نترك الشعرية ونكتب قصائدنا بلغة صحفية.
يسألني بعض الاصدقاء لماذا الناس يحترموك ويحبوك؟، اقول لهم انا من احب الناس واحترم الناس، هذه هي المسألة، فانا احترم كل واحد، بعض الناس اعرفهم يكرهونني ولكن اسلم عليهم بحميمية، فهل انا منافق؟ لا يا سادتي، انا لا انافق، فانا احيي جانب الخير فيهم، وعليّ ان ارعاهم رغم معرفتي بكرههم، هذه هي الحياة.
شبعنا خوفا وجوعا وبقينا شرفاء
اقول لكم ايها الاصدقاء، ان البذور الثورية الاولى التي تلقيناها ما تزال تسطع في رؤوسنا، انا سليل ذلك المعهد الثوري العظيم الذي تخرجنا منه، وسأظل وفيا له وانا بعيد عنه، من بعيد انحني لك ايها الحزب الشيوعي العراقي، فقد منحتنا شرفا وتهذيبا وطاقة وفهما للحياة، وايضا منحتنا الحصانة، فلم نكن خونة ولا عملاء ولا مخابرات، شبعنا خوفا وجوعا وبقينا شرفاء، هذه هي الفضيلة العظمى، وانا ممتن لك وانحني لفكرك الطيب.

ولم يكتف الشاعر الكبير بأن يكون قوله تصريحا فحسب، بل قام خلف المنصة وانحنى بقامته المديدة للحزب الشيوعي العراقي.

تتذكره؟
نعم، فقد عرفتني عليه
وكيف كان؟
كما تركته، وحده معي
والآن؟
وحده
لما؟
لانني معك

الجائعون، المعلقون في فم الثقب
لا تستطيع البطون سوى ولادتهم
وإشاعة اجسادهم
لحبيبة وسط القصر
وسوط وسط الظهر
ونفايات في اول ووسط ونهاية كل العمر
الجائعون، هم من يرفسون بطون امهاتهم
الجائعات بإنتظام


2012/02/05

شباب ساحة التحرير يوقدون شمعة الوفاء للراحل عماد الأخرس




صباح الخير دجلة، ها نحن مجددا في حضرتك، نزف لك القرابين، جئناك بعماد لنعمده بكل الاديان التي مرت على شاطئيك، لفيه باجنحتك، فهو طائر اشنونا الانيق، ادخليه على عشتار كي يفتح لنا بوابة الاساطير.
هكذا انطلقت جلسة الوفاء والتأبين للكاتب والصحفي الراحل عماد الاخرس، والتي دعا اليها شباب ساحة التحرير صباح الجمعة 3 شباط 2012 على ضفاف دجلة جوار تمثال المتنبي.
انطلقت الجلسة باستعراض جزء من سيرة حياة الراحل عماد الاخرس والوقوف دقيقة صمت له، بعدها قرأ الشاعر والكاتب عدنان الفضلي مقاله المنشور في صحيفتي "البينة الجديدة" و"طريق الشعب" والمعنون: (عماد.. لماذا اصبحت صديقي؟) والذي يقول فيه: (عماد الأخرس لمن لا يعرفه، اقول: كان أصدق من جميع السياسيين في حبه للعراق والعراقيين، يحمل بداخله انسانية لو وزعت على اعضاء البرلمان لخدموا الوطن بعيونهم، فهو وفيّ لوطنه حد العشق، وهو قلم شجاع لو اطلع ساستنا على حروفه المضيئة لتعلموا معنى ان تكون عراقياً اصيلاً، فقد عاد من غربته المضنية ليساهم في بناء وطنه بعد ان زال الدكتاتور البعثي، عاد الى بعقوبته البرتقالية ليتعطّر بها ويشمّ اريج بساتينها، دون ان يعلم انه عاد لتقتله عراقيته وأصالته).
ثم قرأ صديقه كاظم الكعبي كلمة عبر فيها عن أساه لغياب الاخرس وعدّه بالأليم والخسارة.
ليصدح الشاعر المبدع ابراهيم الخياط بقصيدة أبهرت النهر والحضور ومنها:
يا قامة الله
أيها الداخلُ في شاشات المقاهي
أيها الخارجُ من خلف الستارة
أيها المخبوءُ فينا
أيها المنفي فينا
أيها السّر ـ البشارة
أيها الجمرُ
النجيعُ
العجيبُ
البعيدُ
المدارُ
الحمامُ
الرحيقُ
النبيّ
الغريّ
القتيلُ
والقاتلون وزارة
بعدها تحدث التربوي المعروف عبد الكريم جعفر عن الاخرس وعن علاقته بابناء محافظته ديالى التي وصفها بالنزيهة والصادقة، لتختتم الجلسة النوعية بالشكر والامتنان لمن حضر وتضامن مع شباب ساحة التحرير.

2012/02/02

ابراهيم الخياط.. أو حشد الألفاظ الانيقة


سلام كاظم فرج
انني لا استطيع أن انطلق وأنا أقرا (البساتين الصديقة) لإبراهيم الخياط من فروض فنية مسبقة أو فروض نقدية مسبقة فقد تركت روح الناقد تتذوق صور القصيدة ومفرداتها لتهمس لي انك إزاء شعر متفرد ومفتقد.. فرغم إن المطابع تفرز كل يوم عشرات القصائد فالشعر قليل، كيف نتلمس الطريق إليه ؟.. تلك إشكالية يعاني منها متذوقو الشعر .
ما شدّني إلى القصيدة – وهنا أجد نفسي واقعا على الرغم مني في ذيول المنهج الانطباعي – صورها المبهرة ومفرداتها الأنيقة فمفردة البساتين توحي وفق منهج التحليل النفسي بالبرتقال والليمون والنخيل والثمار اليانعة. والبساتين توحي وفق بعقوبة بالقداح. والبساتين كما أوحت القصيدة تضم المناضلين والشعراء والمخبرين.
)البساتين
ليمون وانين
ملاذ الساسة والعشاق والكلاب
البساتين
بلا سقوف تنوء بكل الأسرار(
يقتنص الشاعر مفارقة يفهمها من أدمن ارتياد تلك البساتين عاشقا أو مناضلا فرغم إنها بلا سقوف فإنها تحتفظ بأسرار.. أية أسرار.. (والدار لو حدثت ذات أخبار).. وكم تمنيت وأنا أرود منتشيا بأبيات القصيدة لو استبدل الشاعر مفردة الساسة فهي كبيرة على أولئك الفتية الطيبين، فالساسة هم رجال الدولة وكبار السياسيين بينما بساتين إبراهيم الخياط ما ضمت سوى العشاق المعمدين بحب الناس والجمال وما ضمت سوى الحالمين بوطن حرّ خال من (الساسة/التجار). وإبراهيم الخياط في هذه القصيدة يهرب من القافية رغم إنها تواتيه:
(البساتين ملاذ الساسة والعشاق والكلاب)
كان بإمكانه أن يقول والمخبرين. ولعلنا نعذره فالقافية باتت لعنة الحداثويين!
(ذات حرب
غفوت تحت شرفة الحدود .......)
للخياط ومجايليه فضل ابتكار تلك الأحبولة الجميلة المتمثلة بإيراد اسم مفرد بديلا عن ظرف الزمان.. ذات حرب.. ذات خيانة.. ذات شظية، وإذ نسجل تلك السابقة للخياط وصحبه من الشعراء فإننا نراها تعكس مرارة الواقع وقسوته وتشظيه.
إن كمية الألفاظ الأنيقة التي حوتها القصيدة والصور المكتظة بالرموز المركبة تضع المتلقي تحت وطأة إحساس بهيج بألوان قوس قزح من التداعيات رغم تراجيديا الثيمة أو الثيمات التي حفلت بها القصيدة:
(البساتين
لا تنام
ولا تموت
كما أنت - ياكفأها -
لاتنام ولا تموت
فأمامك البرمودا العظيمة
وعلى قفاك فوهة الأسفار المدنية
وبين يديك
ينحني هرم رملي من الأهوال..
فيا نؤوم المسامير
متى تنام؟
ويا مريد الردى..)
تلك موسيقى يعرفها من قاسى أهوال السواتر الأمامية، ويفهمها من قضمت الحروب ربيع أيامه:
(لأنك من نصف ألف تحرس هودجا
مافيه تاج ولا أميرة)
هي أبيات تجعلك تتواضع حيالها فلا تملك سوى إطرائها:
(سأنبيك التأويل المجيد
وإياك أن تقصصه من مآذن
القصيدة على الرابضين
في تكايا الحدود
لأنهم لا يلقونك بالجب
بل يهيلونها عليك
وعلى آلك وأصحابك..)
في هذه الخاتمة، الضربة، نتلمس المأزق الإنساني الذي وضع فيه الأحرار والشعراء والعشاق فان التماهي مع القصص القرآني أو التوراتي وإعطاءه بعدا معاصرا ثم إدخال مفردات مبتكرة مدهشة: مآذن القصيدة/تكايا الحدود/السماء الملبدة بالضيوم/إحتفر دكنة لقطاتك/أوقد نارا للشاي الأنيس/ياصدى مهجورا/الحدود الغيد/مريد الردى..
كل تلك الصور والتراكيب تنبيك أنك أمام شاعر يمسك بزمام اللغة الشعرية آخذا بناصية الحداثة دون أن يتخلى عن جذوره التي تغور عميقا في الواقعية الاجتماعية وذلك حسبه.. ولعمري أن ذلك يكفينا.. (ربّنا اعطنا شعر كفافنا)..!!